ذهب الصراع.. وتحديات الاستقرار: كيف تحوّل بنك السودان المركزي إلى قلب المعركة الاقتصادية في زمن الحرب
شهد بنك السودان المركزي في الأعوام الأخيرة سلسلة تغييرات دراماتيكية في قيادته، تعكس حجم الاضطراب السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد. ففي مايو 2023، أقال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان المحافظ الحسين يحيى جنقول وعيّن خلفًا له برعي الصديق علي أحمد دون توضيح الأسباب رسميًا، وسط تصاعد التوتر بين الجيش والدعم السريع. وجاء القرار الجديد في أكتوبر 2025 ليقلب المشهد مجددًا، حيث تم إعفاء برعي الصديق وتعيين آمنة ميرغني حسن التوم — أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ السودان — بعد خلافات حادة حول سياسة احتكار تصدير الذهب.
كان المحافظ المقال متمسكًا برؤية تُلزم البنك المركزي وحده بشراء وتصدير الذهب، بينما رأى وزير المالية جبريل إبراهيم ضرورة تمكين الشركات من البيع المباشر. وهكذا تحوّل البنك إلى ساحة صراع بين تيارات حكومية متباينة، مما قوّض استقلاليته وأربك وظائفه التنظيمية، خاصة وأن جميع القرارات جاءت عبر مراسيم سيادية دون أي مشاورات تشريعية.
💎 السياسات النقدية والذهب بين السيطرة والجدل
في سبتمبر 2025، أعلن البنك المركزي سياسة جديدة لاحتكار شراء وتصدير الذهب عبره فقط، بدعوى الحد من التهريب وزيادة موارد النقد الأجنبي. لكن هذا القرار أثار عاصفة من الجدل داخل أوساط قطاع الذهب، حيث وصفه رئيس شعبة مصدري الذهب عبد المنعم الصديق بأنه "قرار كارثي"، مؤكدًا أن التجارب السابقة أثبتت فشله. وأشار إلى أن ارتفاع كلفة الإنتاج وانخفاض الأسعار العالمية يجعلان من الاحتكار عبئًا اقتصاديًا.
ورغم أن الحكومة رأت في القرار وسيلة لتحسين احتياطياتها من العملات الأجنبية، إلا أن المصدرين اعتبروه تهديدًا مباشرا لأعمالهم، خاصة في ظل بيئة اقتصادية متوترة أصلاً بفعل الحرب والانقسام الإداري.
💱 انهيار الجنيه وتفاقم التضخم
تزامن الاضطراب في السياسات النقدية مع تدهور حاد في سعر صرف الجنيه السوداني الذي بلغ نحو 3600 جنيه مقابل الدولار في السوق الموازية خلال أكتوبر 2025، مقارنة بـ600 جنيه فقط في نهاية 2024. كما قفز معدل التضخم السنوي إلى 83.47%، ما كشف عمق الأزمة النقدية وضرورة وقف التمويل بالعجز وطباعة النقود التي لجأت إليها الحكومة لتغطية نفقاتها.
وعلى الرغم من ارتفاع إنتاج الذهب إلى نحو 53 طنًا بين يناير وسبتمبر 2025، فإن العائدات الرسمية بقيت محدودة بسبب تهريب ما يقارب نصف الإنتاج إلى الخارج، مما أضعف قدرة الدولة على الاستفادة من أهم مواردها الطبيعية.
🏦 أزمة السيولة وغياب الثقة المصرفية
تفاقمت أزمة شح السيولة النقدية نتيجة الحرب، إذ سحب المواطنون مدخراتهم وتحول التعامل إلى النقد اليدوي خارج النظام المصرفي. كما أدى تدمير ونهب عدد من الفروع البنكية إلى تعطيل الخدمات المالية، فيما تسيطر جماعات مسلحة على بعض نقاط توزيع النقد، مما جعل جزءًا كبيرًا من الكتلة النقدية خارج رقابة البنك المركزي.
👩💼 التحديات أمام المحافظ الجديدة آمنة التوم
تتسلم آمنة التوم زمام البنك المركزي في وقت حرج، وتواجه ملفات معقدة أبرزها:
- استكمال تغيير العملة الوطنية وسحب الكتلة القديمة من التداول لضبط المعروض النقدي.
- وضع آلية متوازنة لإدارة وتصدير الذهب تحد من التهريب وتحقق عائدات عادلة.
- تثبيت سعر الصرف وكبح السوق الموازية التي تسيطر على أغلب التعاملات.
- إعادة تشغيل الفروع المصرفية المتضررة وتنشيط دورة التمويل في الاقتصاد الرسمي.
- توسيع نطاق الخدمات الرقمية لتعزيز الشمول المالي وسحب السيولة من الاقتصاد الموازي.
كما يُنتظر منها إعداد سياسة نقدية لعام 2026 تراعي متطلبات ما بعد الحرب، تشمل خفض التضخم، واستقرار الجنيه، وبناء احتياطيات نقد أجنبي كافية، مع إعادة الثقة في النظام المصرفي.
في النهاية، يبدو أن بنك السودان المركزي يقف اليوم في قلب العاصفة، ليس فقط كمؤسسة مالية بل كرمز لصراع التوجهات في الدولة السودانية بين من يسعى للسيطرة الكاملة على الموارد، ومن يطالب بتحرير السوق. ويبقى السؤال: هل تنجح آمنة التوم في تحويل هذا الصراع إلى توازن اقتصادي مستدام، أم يستمر الذهب في إشعال حربٍ ماليةٍ جديدة داخل أروقة السياسة؟