في ظل التطورات المتسارعة في السودان، لا سيما مع استمرار الحصار على الفاشر وتداعيات الحرب الممتدة، تبدو الساحة السياسية في حالة غليان. خطاب الحرية والتغيير الأخير يفتح باباً واسعاً للنقاش حول موقع المعارضة في المشهد الراهن، وعلاقتها بالقوى الإقليمية والدولية، خصوصاً الإمارات، ودورها في الحرب الدائرة ومحاربة تيارات الإسلام السياسي في السودان.
المفارقة الأساسية في هذا الخطاب أنه يقوم على ساقين:
1. الإقرار بحق الإمارات في حماية مصالحها في السودان
2. تبرير الحرب على جماعة الإخوان المسلمين
هذا الموقف يمكن وصفه بـ"الواقعية السياسية"؛ إذ لم يعد الإنكار المطلق لدور الإمارات في هذه الحرب مقنعاً، بعد أن أصبحت الوقائع واضحة للجميع. لذلك وجدت الحرية والتغيير أن الاعتراف الجزئي وتقديم المبررات أفضل من استمرار سياسة الإنكار.
لكن هذه الواقعية السياسية لا تخلو من ثمن باهظ. فهي تفتح الباب أمام شرعنة دور خارجي يتجاوز السيادة الوطنية، وتحول المعارضة إلى طرف يبحث عن غطاء دولي أو إقليمي يضمن بقاءه في اللعبة السياسية.
البراغماتية والرهان على الخارج
الحرية والتغيير، من خلال هذا الخطاب، تسعى لإعادة التموضع، مستثمرة في ضغوط الرباعية الدولية وبياناتها الأخيرة. فهي تحاول أن تظهر كطرف معتدل وبراغماتي يمكن أن يتكيف مع موازين القوى المتغيرة، أملاً في أن يضمن لها ذلك دوراً أكبر في أي تسوية سياسية قادمة.
غير أن الخطورة في هذا النهج تكمن في ربط الخطاب السياسي بتحولات خارجية متقلبة لا تخضع للمبادئ بل للمصالح. مصالح القوى الإقليمية والدولية يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها، وقد تنتقل من النقيض إلى النقيض وفقاً للمتغيرات على الأرض.
الانعكاسات الداخلية: فقدان الثقة الشعبية
هذا الخطاب يضعف ثقة الشارع في الحرية والتغيير، ويمنح التيار الإسلامي ذريعة لاتهام المعارضة بأنها أداة بيد الخارج. كما أنه يضعف قدرة الحرية والتغيير على تقديم نفسها كقوة سياسية مستقلة، ما سيؤثر على موقفها التفاوضي مستقبلاً.
الخطاب القائم على "إرضاء الخارج" قد يكسب المعارضة نقاطاً آنية، لكنه على المدى البعيد يخصم من رصيدها الشعبي ويعمّق الانقسام الداخلي. وهذا يعيدنا إلى الدرس التاريخي بعد سقوط النظام السابق، حيث راهنت المعارضة على دعم الخارج في فرض العقوبات والحصار على النظام، لكنها فشلت في تقديم حلول عملية بعد وصولها للسلطة، ففقدت ثقة الشارع بسرعة.
الانعكاسات الخارجية: دعم مشروط وقابل للتبدل
الخارج تحكمه المصالح، لا المبادئ. وهذا يعني أنه إذا وجدت الإمارات أو أي طرف آخر أن مصالحه تلتقي مع الإسلاميين أنفسهم، فلن يتردد في التحالف معهم. وبالتالي، فإن تبني خطاب إرضاء الخارج لا يضمن دعماً مطلقاً أو دائماً، بل يضع الحرية والتغيير في موضع قابل للاستبدال في أي لحظة تتغير فيها موازين القوى.
الارتهان أم الجهل السياسي؟
السؤال الذي يطرح نفسه: هل الحرية والتغيير مرتهنة للخارج أم مجرد جاهلة بالنتائج بعيدة المدى؟
الجواب ليس بسيطاً. فمستوى الارتهان يتزايد كلما فقدت الحرية والتغيير أدواتها الداخلية: قاعدة شعبية، خطاب مقنع، وتنظيم فعال. وحتى إن لم تكن المعارضة جاهلة، فإنها تعيش بمنطق البقاء السياسي، حيث يصبح الهدف الأساسي هو الاستمرار في المشهد لا بناء مشروع وطني مستدام.
هذه البراغماتية القصيرة المدى تحوّل السياسة إلى "رزق اليوم باليوم"، ما يضعف أي رؤية استراتيجية ويؤسس لأزمات مستقبلية أعمق.
دروس الماضي وتهديدات المستقبل
يمكن للقوى السياسية أن تكسب على المدى القصير من خلال خطاب متماهي مع الخارج، لكنها تخسر على المدى البعيد ثقة الداخل من دون ضمان استمرار الدعم الخارجي. هذا المسار قد يقود إلى دولة منقسمة الولاءات، حيث تصبح الشرعية مستمدة من داعم خارجي بدلاً من إرادة الشعب، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للوحدة الوطنية والأمن القومي.
نقطة على السطر
الرهان على الخارج قد يفتح أبواب السلطة، لكنه يغلق أبواب الإنجاز الداخلي.
وإذا لم تنتبه الحرية والتغيير لهذه الحقيقة، فقد تجد نفسها في لحظة ما خارج اللعبة تماماً، تاركة فراغاً تملؤه قوى أخرى قد لا تحمل أي مشروع وطني، بل أجندات تزيد من تمزيق البلاد.